تعد الرضاعة الطبيعية من أروع وأثرى التجارب الإنسانية التي تمر بها المرأة، فهي آية من آيات الله تعالى، حيث تتجلى فيها أسماؤه الحسنى مثل: الهادى والرازق والرزّاق.
كما تتجلى فيها صورة رائعة من صور هداية الخلق إلى منافعهم، قال تعالى: " وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " سورة النحل 78، فهو سبحانه الذي هدى الطفل الصغير إلى سبيل غذاؤه وقوام معيشته.
علمه كيف يلتقم ثدي أمه، ويرضع الحليب الهنيء الذي أودعه فيه على أحسن ما يكون، حرارة وحلاوة وتعقيماً ربانياً، فسبحانه"الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى".
ولأن فيها العديد من الفوائد الحسية والمعنوية للأم والطفل معاً.
فلبن الأم غذاء صحي كامل و مناسب للطفل طوال مرحلة الرضاعة.
وهو كذلك غذاء ودواء مادي ومعنوي؛ فقد ثبت أن الطفل الذي يرضع من أمه ينمو نمواً نفسياً سليماً.
بينما تكثر الأمراض والعلل النفسية والصحية لدى أولئك الذين يرضعون من القارورة أو الرضاعة الصناعية(زجاجة الحليب).
فالرضاعة الطبيعية هي عملية نمو جسمي ونفسي، ولها أثر بعيد في استواء الطفل نفسياً وانفعالياً وصحياً.
ومن فوائد الرضاعة الطبيعية للأم:
أن الرضاعة الطبيعية تساعد على سرعة انكماش الرحم وعودته لحجمه الطبيعي.
كما تساعد في عودة نسب الجسم-خاصة الصدر والبطن-إلى طبيعتها.
كما تمثل الرضاعة الطبيعية: وقاية للأم من احتمالات الإصابة بأمراض خطيرة، مثل: سرطان الثدى والرحم-لا قدّر الله-.
وقد حظيت مرحلة الرضاعة باهتمام كبير في الشرع الحنيف:
- فقد أوجب الشارع الحكيم على الأم إرضاع طفلها باعتبار ذلك حقاً له، ليس لأحد أن يمنعه إياه، قال تعالى:"وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ" وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ".-البقرة:233.
- و أوجب على والد الطفل-إذا طلق أمه- نفقتها وأجرة الرضاعة " وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ "البقرة:233-
وما كان هذا الاهتمام البالغ من الشارع الحكيم بشأن الرضاعة، لمجرد كونها سبباً لتغذية الطفل وإنما لأنها تمثل عاملاً أساسياً في البناء الديني والخلقي للطفل، ومن خلالها يكتسب الطفل طبائع أمه وصفاتها سلباً وإيجاباً، ومن هنا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمن أراد أن يتزوج أن يختار ذات الدين.
كما قال صلى الله عليه وسلم:" تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه [ رواه البخاري ومسلم] .
وأيضا لأن لبن الأم كما يؤثر في صحته وغذائه فإنّ له بالغ الأثر في أخلاقه وطبعه، يؤكد هذه الحقيقة (ابن الجزار القيرواني)، وهو من علماء التربية حيث يقول-رحمه الله- :
"إنها ترضعه لبنها وعاداتها وأخلاقها وصحتها وسقمها وعاطفتها".
وإذا لم تتمكن الأم من إرضاع وليدها لِعلّة ما، واضطرت أن تسترضع له امرأة أخرى، فينبغي أن يُختار للرضيع المرضعة المناسبة من حيث السن والخَلْق والخُلُق.. مراعاةً لقاعدة انتقال الطباع والأخلاق من خلال لبن الأم المرضعة.
ويأتي من بعده الإمام الغزالي رحمه الله ليقرر القاعدة نفسها، ويؤكد على أهمية صلاح المرضعة وما يترتب عليه فيقول:
"فلا يُستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متديّنة تأكل الحلال؛ فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه".
ولقد كان القرشيون أصحاب فطرة سليمة توصلوا من خلالها إلى زيادة الصفات الحميدة في المولود من خلال اختيار المرضعات النابهات لأولادهم، وأعظم مثال على ذلك إرضاع حليمة السعدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاكتسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاحة النطق وغيرها من الصفات الحميدة وراثة وإرضاعاً إذ إن قبيلة بني سعد التي رضع فيها من أشهر قبائل العرب فصاحة وصحة.
كل ذلك يؤكد أهمية مرحلة الرضاعة فى بناء شخصية الطفل وغرس الأساس الديني في نفسه منذ اللحظات الأولى في حياته،وعلى الأم المسلمة أن تعي جيداً مدى عمق الدور المنوط بها في أثناء تلك الفترة من عمر ولدها، فتحتسب النية في إرضاعه، ولتذكر اسم الله تعالى عند إرضاعه، ولتسمعه الذكر وتلاوة القرآن أثناء ذلك، فكل ذلك يعد من تربيته وتهيئته.
ولنطالع هذه الدراسة الفريدة التى أجريت لإثبات دور الرضاعة الطبيعية وأثرها في توجيه الطفل توجيهاً إسلامياً:
جاء في كتاب (لغة الطفل) ص:25:"أجرت د.رسمية على خليل،دراسة تتبعية لتوجيه الطفل الحضين- الرضيع- إسلامياً،وهى دراسة فريدة ومثيرة وطريفة فى خطواتها ونتائجها..حيث كانت نتائج هذه الدراسة كما يلي:
- كانت الرضاعة الطبيعية من أكثر المواقف عوناً للأم على بدء توجيهها الإسلامي.
- كان النوم تالياً للرضاعة فى الترتيب من حيث أهميته فى عملية الاتصال بين الأم والحضين.
- كان كلما علا صوت الطفل علا صوت الأم بقراءة القرآن، ومع تلاوة الآيات يصمت الحضين فجأة متأملاً ، ثم يهدأ وينام نوماً عميقاً.
- عند بدء الحضين فى الكلام لقنته الأمهات بعض كلمات الذكر البسيطة مثل: الله أكبر.
- استطاعت الأمهات تعليم أطفالهن آداب الطعام، ومنها غسل اليدين، والتسمية، والأكل باليمنى، وقوله "الحمد لله"...وغير ذلك.
- كانت البنات أسرع استجابة، وتكلمن مبكراً، وحفظن أجزاء من الأدعية وردّدنها مبكراً كذلك.
- زادت حصيلة الأمهات من الثقافة الإسلامية .
- كان الحضين يتابع أمه وهى تقرأ، ويكف عن الرضاعة فترة، ثم ينظر إلى أمه ويتابعها ثم يواصل رضاعته في سرور.
وأخيراً:
فلا تدخري وسعاً أيتها الأم: أن تحتسبي أجراً وتسمعي ولدك لله ذكراً، فحتماً ستلاقي بصلاحِه بِشْراً في الدنيا قبل الآخرة.